سمعت أباً يقول غريب كيف أن أولادي ليسوا متماثلين رغم أنهم أشقاء! ونشأوا وتربوا في نفس البيت ونفس الأهل والجيران لكن للأسف ابني الصغير ليس مثل أخيه ولا بشطارته؟
دعوني أسأل هذا الأب لو جرّبتَ أن تزرع عددًا من البذور المختلفة، ووضعتها بجانب النافذة، ورعيتها بنفس الطريقة، ونظرت إليها بعد أسبوع، وحرصت أنّ تحصل كل بذرة على ذات الاهتمام والرعاية، هل ستجدها متساوية في النمو ومتطابقة في الشكل لأنها في نفس البيئة؟ طبعا لا… …
بل ستجد أنها لم تنمُ بنفس القدر، وهي متباينة في الشكل والحجم، فبذرة الخردل لا زالت برعمًا صغيرًا، بينما الحلبة ظهر لها ساق وأوراق، أما الكتّان فهو أكبر قليلا من الخردل، ستلاحظ أن ليس هناك نبتتان متطابقتان تماما، فسبحان الله العظيم الذي لم يجعل الأشياء نسخًا مكرّرة بل جعل الاختلاف ميزةً وتفرُّدًا، اختلافُ تنوعٍ لا تضادّ فيه، واختلافُ إثراء لا إقصاء معه، فقد أعطى كلّ بذرة سمات تُعرف بها وتميّزها.
وهذا يُذكّرني برسالة كتبتها إحدى الأمهات تصف الاختلاف في أبنائها، وكيف تراهم مثل ألوان الطّيف السبعة، وقد أعجبني ما كتبت عن الصغير، حين شبهته باللون الأصفر في إمتلائه بالحيوية والنّشاط والغيرة والحماس، ثم أجادت في وصف ابنتها الهادئة المسالمة المعطاءة المتدينة؛ التي تشبه اللون الأخضر، وبعدها تفنّنت في وصف بكرها الرّصين الحكيم المفكّر، وذكرت كيف تراه لا يختلف عن اللون الأزرق، وهكذا أبدعت في تشبيه أبنائها وبيّنت كيف أنّها تنظر إلى كلّ منهم دون مقارنته مع الآخر، بل هي تستطيع أن ترى ما يميّزه هو دون غيره، وما يتمتّع به من صفات جميلة تجعله متفرّدا، ثم ختمت رسالتها بعبارة: الحمد لله أن زيّن حياتي بألوان تملؤها بالبهجة، ودعت الله أن يعينها ويمكّنها من الالتزام بالتّعامل مع كلٍّ منهم بالطريقة التي تناسبه، وتدعم نموّه وتفرّده، وتتماشى مع خصوصيّته وشخصيّته.
تُرى! كم من مُربٍّ يمتلك هذه المهارة ليلاحظ طفله عن قرب ويعي تفرّد أطفاله?
لم تقع هذه الأم التي كتبت الرسالة في فخاخ التّعميم والنّظرة الواحدة التي ذهب باتّجاهِها فيض من المربّين، لقد لمست بذكاء موضع الخلل المتمثل في ضعف قدرة المربي على احترام الاختلاف والفروق الفردية المميزة لكل طفل، والذي وقع فيه الأب بداية المقال حين قارن بين أبنائه فقال للصغير لم أنت لست بشطارة أخيك؟ هو يريد أن يحفزه ويحمسه ليصلح نفسه، ولكنه دون قصد أحبطه وأشعره بالدونية وأنه أقل من أخيه، فالمقارنة لا تنجح بهذا الشكل لأن شجرة الموز تنمو بجانب شجرة البرتقال لكن احتياجاتهما وثمارهما مختلفة وما يقوم به المزارع من فهم لخصائص واحتياجات كل شجرة هو بالتحديد ما يجب أن يقوم به المربي مع أبنائه ليقارن الابن الأصغر بنفسه وما كان عليه فحين أراد رسول الله أن يشجع عبد الله ابن عمر لم يقل فلان يقوم الليل لم لاتقومه أنت؟! بل قال ﷺ : “نعم الرجل عبدالله لو كان يصلي من الليل”[i].
أليس من حقّ الطفل علينا أن نراعي خصوصيته وتفرّده، وونلاحظه بدقة وإمعان لنبحث ونكتشف نقاط قوّته وضعفه، وما يحبّ ويكره كي نعرف كيف نتعامل معه ؟!
نعم… هناك مشكلة ظاهرة لدى كثير من المربّين حيث يعتقدون أن الأطفال متطابقون تماماً ويمرّون بنفس جدول النموّ، ويحبّون نفس الأشياء دون أن يكون لكلّ منهم خصوصيّته وأسلوبه في التّعامل مع الأمور، فالأطفال متمايزون و يجب أن نتقبّل كلًّا منهم كما هو، ونمعن النّظر في خصائصه.
لا بدّ أن نكون الآن أكثر وعيًا؛ بأن لكلّ طفل لونه الخاص، وطبيعته المختلفة التي تُكوّن بصمته المميّزة، ولا تشبه أيّ بصمة في هذا العالم، وليس من حقّنا أن نغيرها بالقوة، بل من حقّه أن نقبله ونتقبّله، ونحبّه كما هو دون شرط، ونريه نقاط قوّته وضعفه، وندربه كيف يتعامل معها وفق الموقف، وبعد أن نتقبّل نحن الطفل، علينا أن نعلّمه كيف يتقبّل هو بدوره الاختلاف لدى الأخرين، وكيف أنّ البشر يتشابهون في أشياء، ويختلفون في أخرى، وهذا لا يجعلهم يتنافرون أو يبتعدون؛ إنما يعطي لكلّ منهم صفة تميّزه عن غيره، فيجب أن نقول للطفل أننا نتشابه ونختلف، في مشاعرنا وصفاتنا وأشكالنا… تشابهنا واختلافنا نعمة تضيف لنا وتعطي للحياة معنى، وهذا لايجعلنا أقل قيمة أو أكثر علماً أو نفعاً، بل يعطينا ميزات تُفرّد كلّ واحد منّا.
لذا انتبه أيها المربي أن تقع في فَخِ المقارنة وقَدِّرْ الاختلاف، وتذكر أن التنافسية لا تعني أننا متطابقون فنحن نتنافس كل حسب قدراته وطبيعته وهذا مسموح شرعًا فلم يقارن النبيﷺ بين عمر وأبو بكر، قال تعالى “وَلَوْ شَاءَ ربُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين“[ii]صدق الله العظيم
[i]صحيح البخاري- صفحة رقم7028
[ii] سورة هود الآية 118
مقالة تربوية جميلة
ذكرتني بالعبارة التربوية المشهورة ليس هناك طفل مشكل بل هناك آباء مشكلون
كثير من أبناءنا جواهر ثمينة جدا لكن التحديات والقوالب التي نضعهم فيها تشذبهم بشكل جائر